فإن قيل: لماذا أوردنا حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني ) نقول: إن هذا الحديث جاء في أمور محرمة في منهي عنه، وهناك قاعدة عظيمة يجب أن لا تخفى عليكم وهي: أيهما أعظم وأفضل في الدين فعل المأمورات أم ترك المحرمات؟
الجواب أن فعل المأمورات هو الأساس، ولو أن عبداً فعل المأمورات وأتى بالصلوات الخمس، وأقام الأركان الخمسة للإسلام، لكنه قارف بعض الكبائر فإنه لا يزال مؤمناً، ومن الكبائر الزنا والسرقة وشرب الخمر فلو قال أحد: إن أهل السنة مجمعون ومتفقون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، فالمقصود بمرتكب الكبيرة هو من فعل هذه الأعمال وما دونها، وليس المقصود من ترك الصلاة أو أحد الأركان، ومن أجل ذلك نبهنا إلى هذا، فإذا كان الزجر والوعيد القوي في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) جاء في حق من فعل هذه الكبيرة وارتكب هذا المحظور فإنه يكون في حق تارك الصلاة أشد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة ) وهذا أعظم من قوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ثم إن الزنا ليس كالصلاة، أي: فعل الزنا ليس كترك الصلاة؛ لأن فعل الزنا -والعياذ بالله- هو شهوة يدعوا إليها الشيطان والنفس، والمغريات، وهي تلم بالإنسان أحياناً، أما الصلاة فهي فريضة تجب كما قال الله تعالى: (( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ))[النساء:103] فتجب خمس مرات في اليوم، في أوقات معينة لا بد أن يأتي بها فيها، وأن تفعلها وأنت منشرح وراضٍ غير كسلان إلى غير ذلك، فهذه العبادة عملها متكرر يومياً كالزاد اليومي الذي لا بد لك منه لتعيش، بخلاف فعل الزاني فإن الإنسان يغلب عليه، ولذلك أكثر من يزني -والعياذ بالله- إنما يقع منه في أوقات معينة من حياته كسن الشباب مثلاً، لكن أن يستديم أحد ترك الصلاة فهذا لا إيمان له، فهو بعمله هذا يدلل على أنه لا إيمان له أصلاً.
وهكذا الخمر فإن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عندما زجر عن الخمر ربطها بالصلاة؛ لأن شارب الخمر سيترك هذا العمل والواجب اليومي المتكرر الذي لا بد منه, والذي به يجدد الإنسان إيمانه ويزيده وينميه، فإنه إذا شرب الخمر أدى به ذلك إلى تركها، فشرب الخمر بريد ووسيلة إلى الكفر والخروج من الدين -والعياذ بالله- والخمر أم الخبائث؛ لأن من شرب الخمر أدمن، وإذا أدمن أصبح مستديماً لترك الطاعات، وهذا ليس وقوعاً في إحدى المحرمات، بل أدى به ذلك إلى استدامة ترك الطاعات، فخرج بذلك عن مجرد أنه صاحب كبيرة -والعياذ بالله- فالخمر إدمان وليس مجرد فعل كالزنا أو السرقة.
والسارق كذلك إذا استمرأ السرقة أصبحت إدماناً؛ والإدمان أنواع، وإن كان أعلاه وأظهره هو إدمان الخمر أو المخدرات أو التدخين، بل حتى أكل الإنسان المال الحرام يصبح عنده إدماناً، فبعض الناس لو أعطي ملايين من الحلال فإنه لا يجد لها طعماً إلا أن يرتشي -والعياذ بالله- ولا بد أن يرتشي لا بد أن يأخذ من مشروع من المشروعات شيئاً، وأن يقتطع شيئاً لأحد الموظفين، مع أنه جاء له من الحلال الشيء الكثير، وفي هذه الحالة يخرج الإنسان عن مجرد الوقوع في المعصية إلى استدامة ترك الطاعة، فيصبح لا يلتزم بشيء من حق الله ولا من حقوق العباد، بخلاف ما إذا كان يسرق، فإنه قد يسرق في الشهر مرة، أو في الأسبوع مرة، أو في السنة مرة، وقد يسرق أحياناً، لكن الاستدامة أمر آخر، فهذا يرجع كله إلى أعمال القلوب، وضرورة تصحيح النية، وتجريد القلب لله تبارك وتعالى باليقين والإخلاص والصدق والمحبة والرضا والانقياد والإذعان والتسليم أما ما يتفرع عن ذلك من أحكام المخالفين لهؤلاء، وخلاف الفقهاء في ذلك فهذا قد تقدم بعضه، وبعضه إن شاء الله قد يأتي، أو هو معلوم واضح، إنما المقصود أن نعلم حقيقة ارتباط الأعمال البدنية بالأعمال القلبية، وأن الإيمان لا يكون إلا بتحقيق أعمال القلوب التي تستلزم تحقيق أعمال الجوارح ولابد.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.